المقدمة
في عصر التكنولوجيا المتسارعة، أصبحت الشاشات — سواء الهواتف الذكية أو الأجهزة اللوحية أو التلفزيونات — جزءًا لا يتجزأ من حياة الأطفال. وعلى الرغم من أن هذه الأجهزة قد توفر ترفيهاً وتعليماً، إلا أن الإفراط في استخدامها يثير مخاوف متزايدة بين الخبراء في مجالات التربية والصحة. في المقابل، تجد الأمهات العاملات أنفسهن بين مطرقة الالتزامات المهنية وسندان الشعور بالذنب حول ترك أطفالهن أمام الشاشات. فهل يمكن تحقيق التوازن؟ وكيف يمكننا فهم تأثير الشاشات على النمو الشامل للأطفال في ظل الواقع المعقد للأسر الحديثة؟
أولاً: لمحة تاريخية حول الشاشات والطفولة
قبل عقدين فقط، كانت الطفولة تعني اللعب في الحدائق، قراءة القصص الورقية، والجلوس مع العائلة أمام التلفاز لساعة أو اثنتين في اليوم. أما اليوم، فقد تغير المشهد تمامًا. تشير الإحصاءات إلى أن الطفل في المتوسط يقضي ما بين 3 إلى 7 ساعات يوميًا أمام الشاشات، وقد تبدأ هذه العادة منذ عمر السنة أو حتى أقل.
تزامن هذا التحول مع دخول الأمهات إلى سوق العمل بأعداد متزايدة، مما أدى إلى اعتماد البعض على الشاشات كأداة “مساعدة” أو “مربية رقمية”. لكن هل هذا الاعتماد ضريبة ضرورية للواقع الحديث أم مخاطرة كبيرة على مستقبل الأطفال؟
ثانيًا: توصيات الخبراء — ما الذي تقوله الأبحاث العلمية؟
1. الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال (AAP)
تنصح الأكاديمية بعدم تعريض الأطفال دون عمر السنتين لأي نوع من الشاشات، إلا في حالات التواصل الافتراضي مع الأقارب. أما الأطفال من عمر سنتين إلى خمس سنوات، فيُنصح بعدم تجاوز ساعة واحدة يوميًا، مع ضرورة أن يكون المحتوى تعليميًا وتحت إشراف الأهل.
2. منظمة الصحة العالمية (WHO)
أكدت منظمة الصحة العالمية على أن الأطفال دون عمر الخمس سنوات يجب أن يقضوا وقتًا أقل أمام الشاشات وأن ينخرطوا في نشاطات بدنية أكثر. توصي بأن لا يتعرض الأطفال دون السنتين للشاشات أبدًا، وأن لا يتعدى وقت الشاشة للأطفال من عمر 2-4 سنوات ساعة واحدة في اليوم.
3. أبحاث حديثة
تشير دراسات متعددة إلى أن التعرض المكثف للشاشات يمكن أن يؤدي إلى:
-
تأخر في تطور اللغة والنطق
-
ضعف الانتباه والتركيز
-
اضطرابات النوم
-
زيادة معدلات القلق والاكتئاب
-
السمنة
-
مشاكل في السلوك الاجتماعي
ثالثًا: واقع الأمهات العاملات — بين الطموح والضغوط
1. ضغط الوقت
تقول سارة، وهي أم عاملة في مجال التسويق:
"أصل من العمل مرهقة، لدي طبخ وغسيل ومهام منزلية، وفي نفس الوقت يجب أن أخصص وقتًا لطفلي. في بعض الأحيان، أعتمد على التلفاز أو الجهاز اللوحي لكي أتمكن من إنجاز مهامي."
2. الشعور بالذنب
تشعر العديد من الأمهات العاملات بتأنيب الضمير عندما يتركن أطفالهن أمام الشاشات. وتزداد حدة هذا الشعور مع تكرار التحذيرات الإعلامية حول مخاطر التكنولوجيا على النمو العقلي والسلوكي للأطفال.
3. غياب الدعم المجتمعي
قلة خيارات الحضانة المرنة، أو غياب الدعم الأسري، يجعل الأمهات العاملات يلجأن إلى الشاشات كحل وسط، وإن كان غير مثالي. بعضهن لا يملكن خيارًا آخر.
رابعًا: كيف تؤثر الشاشات على الجوانب المختلفة لنمو الأطفال؟
1. النمو اللغوي
تُظهر دراسات أن الأطفال الذين يشاهدون الشاشات لساعات طويلة يوميًا يعانون من تأخر في اكتساب الكلمات والتفاعل اللغوي، مقارنة بأقرانهم الذين يتلقون تفاعلًا وجاهيًا مع الكبار.
2. النمو الاجتماعي والعاطفي
التفاعل مع الشاشات غالبًا ما يكون أحادي الجانب، مما يقلل من فرص تعلم المهارات الاجتماعية مثل التواصل البصري، نبرة الصوت، وفهم مشاعر الآخرين.
3. النشاط الجسدي
وقت الشاشة الطويل يقلل من فرص الحركة والنشاط البدني، وهو عنصر مهم في نمو الأطفال. كما يرتبط الاستخدام المفرط بمخاطر السمنة والسكري من النوع الثاني في المراحل اللاحقة من الحياة.
4. النوم
الإضاءة الزرقاء المنبعثة من الشاشات تؤثر على هرمون الميلاتونين، مما يؤدي إلى اضطرابات النوم. الأطفال الذين يقضون وقتًا طويلًا أمام الشاشات يميلون للنوم في وقت متأخر ويواجهون صعوبة في الاستيقاظ صباحًا.
خامسًا: كيف يمكن تحقيق التوازن؟
1. تقنين الوقت
-
استخدمي أدوات التحكم الأبوي لتحديد وقت الشاشة.
-
ضعي جدولًا واضحًا لاستخدام الشاشات.
-
قدمي البدائل كالرسم، اللعب بالمعجون، أو القصص الورقية.
2. التفاعل أثناء المشاهدة
شاهدي مع طفلك المحتوى وناقشيه معه. اسأليه:
“ما رأيك في هذا المشهد؟”
“هل تتذكر ماذا قال ذلك الحيوان؟”
هذا يعزز مهارات الفهم والتواصل.
3. تقديم بدائل واقعية
-
وفري وقتًا نوعيًا مع الطفل حتى لو كان قصيرًا.
-
أدخلي ألعابًا تعليمية غير رقمية ضمن الروتين اليومي.
-
خصصي زاوية للأنشطة اليدوية في المنزل.
4. المرونة
ليس من الواقعي منع الشاشات تمامًا، خاصة في عصر التعليم الرقمي. الفكرة هي الإدارة الذكية، لا المنع الكلي.
سادسًا: نماذج واقعية من الأمهات
1. ريم – أم لطفلين
تقول ريم:
"بدأت ألاحظ أن ابني لا يتكلم كثيرًا مقارنة بأقرانه. عندما خففت استخدام الجهاز اللوحي وبدأت أقرأ له كل ليلة، تطور مستواه بشكل ملحوظ."
2. ندى – طبيبة وأم لطفلة
ندى تؤمن بأن الحل يكمن في "النوع لا الكم"، فتختار تطبيقات تعليمية تشاركية، وتجلس مع طفلتها أثناء الاستخدام.
سابعًا: دور المؤسسات التعليمية والحكومات
من المهم أن تشارك الجهات الرسمية في:
-
تقديم برامج توعية للأمهات والآباء حول الاستخدام الآمن للشاشات.
-
توفير حضانات ومدارس بدوام مرن لدعم الأمهات العاملات.
-
تطوير محتوى رقمي تفاعلي وإيجابي.
-
وضع تشريعات لتقنين الإعلانات الموجهة للأطفال عبر الشاشات.
ثامنًا: مستقبل الطفولة في عالم رقمي
الشاشات لن تختفي من حياتنا، بل ستزداد. لذا من المهم أن نُعد أطفالنا ليكونوا مستخدمين أذكياء وليس مجرد مستهلكين. يمكن للشاشات أن تكون أداة تعليم وتطور إذا ما استُخدمت بحكمة، وكانت جزءًا من نمط حياة متوازن يشمل اللعب، الحوار، والنشاط البدني.
الخاتمة
بين تحذيرات الخبراء وواقع الأمهات العاملات، تتجلى الحقيقة الصعبة: لا يوجد حل مثالي. لكن الوعي، التنظيم، والنية الحسنة يمكن أن تصنع فرقًا كبيرًا في حياة الطفل. التكنولوجيا جزء من الحاضر والمستقبل، والتحدي الحقيقي هو أن نجعلها حليفًا لنمو أطفالنا، لا عقبة أمامه.